في يوم الأغنية اليمنية: صوت يتحدى السلاح وينتصر للحياة.

جمال الصامت:
في الأول من يوليو، يغنّي اليمني ليقول: “أنا ما زلت حيًّا.” يترك الحرب جانبًا، يطوي الوجع لحظة، ويستعيد صوته كما يمضي في استعادة وطنه. فيوم الأغنية اليمنية ليس مجرد مناسبة ثقافية، بل هو استفتاء سنويّ للروح، يُعيد الاعتبار للحن، وللكلمة، وللهوية.
للعام الخامس على التوالي، يحتفي اليمنيون بهذا اليوم الذي أقرّته وزارة الثقافة في العام 2021، ليصبح مناسبة يتجدد فيها صوت الإنسان اليمني بكل تنويعاته، من الجبل إلى الساحل، من الريف إلى المدينة، ومن الوطن إلى المهجر.
ويُحيي اليمنيون هذا اليوم عبر الفضاءات الرقمية، والفعاليات والمهرجانات البسيطة، حيث تمتلئ منصات التواصل الاجتماعي بكنوز الغناء اليمني، من الأصوات الخالدة إلى الألحان المتجذّرة في تربة الأرض اليمنية وروح الإنسان.
كما لا تكتفي الأغنية بأن تُغنّى، بل تعود لتُشعل الذاكرة، وتربط اليمني بجذوره، خصوصًا يمنيي المهجر الذين يرون في هذه المناسبة خيطًا سحريًا يعيدهم إلى الأرض، إلى الأم، إلى الشارع الترابي، إلى رائحة المشاقر، ورائحة القهوة في صباحات القرى.
الأغنية اليمنية.. فسيفساء الهوية
تتنوع المدارس الغنائية اليمنية بتنوع الجغرافيا والثقافات؛ من التعزية ذات الشجن الريفي الممزوج بالعتاب والحنين، إلى العدنية التي تتنفس الحرية وتغنّي للبحر والحب، فالصنعانية الرصينة بزخمها الشعري والموسيقي، والحضرمية العذبة بروحها الصوفية الهادئة، واللحجية الشعبية المتدفقة، والتهامية التي تمزج الفطرة بالنغمة، وغيرها، فلكل منطقة مدرستها الخاصة بها. كل منها تحمل نكهة الحياة وروح البيئة التي نشأت فيها، في تناغم فريد يعكس ثراء اليمن الفني وتنوعه الثقافي، لتكوّن في مجملها فسيفساء موسيقية لا مثيل لها في العالم.
*ليست كل الأغاني عشقًا.. بعضُها للوطن*
يُخطئ من يختزل الأغنية اليمنية في العاطفة والغرام فقط. ففي وطنٍ أنهكته الحروب وتمزّقت جغرافيته، لم تكن الأغنية مجرد وسيلة ترفيه، بل كانت ولا تزال سلاحًا روحيًا، وصوتًا بديلًا للرصاصة حين تصمت البنادق.
منذ فجر ثورة السادس والعشرين من سبتمبر، كانت الأغنية حاضرة في قلب الحدث، تلهب الحناجر وتوقظ الضمائر. من “رددي أيتها الدنيا نشيدي”، إلى “يا سماوات بلادي باركيني”، إلى “دمتِ يا سبتمبر التحرير يا فجر النضال”، وحتى “برّع يا استعمار”، كانت الأغنية أشبه بمدفعٍ في جبهة، وراية في ميدان، وذاكرة وطن لم يُكتب تاريخه بالدماء فقط، بل بالألحان أيضًا.
لقد مثّلت الأغنية الوطنية أداة تعبئة ووعي، ورافعة معنوية، ووثيقة شعبية ووطنية تحفظ تاريخًا من النضال، وتُحيي وجدان أجيالٍ لم تُعاصر زمن الثورة لكنها غنّت لها.
*من تعز.. ثنائي الخلود وصوت اليمن*
لرُبّما لا يسعنا المقام أن نُحصي كلّ من أنجبتهم اليمن من روّادٍ وصنّاعٍ للأغنية اليمنية الخالدة، لكننا حين نذكرهم، لا بد أن نتوقف بخشوعٍ عند أحد أعظم الثنائيات التي عرفها هذا الوطن.
فمن أعماق تعز، انبثقَ الثنائي العظيم، الشاعر عبدالله عبدالوهاب نعمان (الفضول)، والفنان أيوب طارش عبسي، اللذان شكّلا معًا روح الأغنية اليمنية بجميع ألوانها.
لم تكن أغانيهما مجرّد كلمات وألحان، بل كانت نبضات وطن تتدفق فيه الدماء، وحكايات عشق وحنين، وصورًا صادقة عن أحلام الإنسان اليمني وهمومه، تعبيرًا حيًّا عن تاريخه وتراثه الثقافي العريق.
قدّما لحظاتٍ نادرة من الصدق والإحساس، حيث تمازج الحنين بالحب، والانتماء الوطني، فصارت أعمالهما ملاذًا لكل قلب يمني يبحث عن الحب في زمن التيه، وعن الأمل في زمن التشظي وضياع الوطن.
هذا الثنائي، من تعز، لم يغنِّيا فقط، بل نسجا خيوطًا من الضوء بين الماضي والحاضر، بين وجدان الشعب وصوت الأرض، بين الإنسان اليمني وتاريخه، ليبقيا شاهدين على جمالٍ لا يُمحى.
*لماذا نغنّي؟*
في زمنٍ ساد فيه الرصاص، كانت الأغنية تهمس بما عجزت عنه الأفواه، وتغنّي نيابةً عن أولئك الذين خنقهم الصمت وأثقلهم الخوف.
كان اللحن يُرمّم الكسور، وصوتًا ناعمًا يتسلل من بين فواصل الحرب، ليقول ما لا يُقال، ويُشعرنا أن في هذا الوطن متّسعًا لا يزال للحياة.
نغنّي لأن الأغنية تُرمّم ما هدمته السياسة، وتزرع الفرح في أرضٍ تكدّست فيها الأوجاع. نغنّي لأننا يمنيون، والهوية عندنا ليست وثيقة، بل لحن.
يوم الأغنية اليمنية ليس مجرد يوم نُغنّي فيه، بل يوم نُثبت فيه للعالم أننا شعبٌ ما زال يتنفس رغم أنف الحرب. هو يومٌ نحتفل فيه بأننا ما زلنا قادرين على الفرح، ولو مؤقتًا، وعلى البكاء، ولو بألحان.
وما دام هناك يمنيٌّ واحدٌ يحتفظ بأغنية في ذاكرته، فإن هذا الوطن لم يمت.
*ترانيم تُقاوم الظلام*
لا يمكن إغفال أن هناك اليوم قوى تتكالب على الهوية اليمنية من جهات متعددة، فالإمامية بثوبها السلالي، وجماعات الإسلام السياسي بأقنعتها الدعوية الدخيلة على المجتمع اليمني والتي لا تمتّ للدين بصلة، تتشاركان هدفًا واحدًا هو محو هذه الهوية واستبدالها بهويات طائفية ومشاريع ضيقة تمجّد السلالة أو تقدّس الجماعة.
فالإماميون الجدد لا يريدون أغنية تعزف للناس، بل نشيدًا يسبّح بحمد “الحق الإلهي”، فيما تسعى جماعات الإسلام السياسي إلى محاصرة الفن والموسيقى داخل ثنائية الحلال والحرام، ملوّحين بعصا الفتوى والتخويف، وكأن الغناء جريمة، والفرح رذيلة. كلاهما يريد لليمني أن يصمت، إما احترامًا لنسبٍ مزعوم، أو خضوعًا لأيديولوجيا تُحرّم الحياة ذاتها.
لكنهم يجهلون أن الأغنية اليمنية وُجدت لتبقى، وأن كل محاولة لطمسها تُعيد إحيائها من جديد، بصوت طفل يُغنّي، أو عامل بسيط يردّدها مع بزوغ الفجر، أو لاجئ يهمس بالألحان على شرفة الغربة، أو فنّان يائس ينتزع من حزنه لحنًا يعيد ترتيب الخراب.
الأغنية اليمنية تنتمي إلى الأرض، إلى الإنسان، وإلى روحٍ تأبى أن تُستعبد أو تُقيَّد. ولهذا، سيظل اليمني حين يُغنّي يقول لكل السلاليين والوصائيين: “أنا ما زلت حيًّا، وأنا ما زلت يمنيًّا”.
